عربي

الذكاء العاطفي: مفتاح القيادة الفعّالة والتفوق الشخصي

يعتقد عديدٌ من القادة أنَّهم يمتلكون مستوى عالٍ من الذكاء العاطفي، لكنَّ الواقع غالباً ما يكون مختلفاً. وجدت دراسة نُشرت في مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" (Harvard Business Review) أنَّه بينما يعتقد 95% من الناس أنَّهم يتمتعون بالوعي الذاتي، فإنَّ 10-15% فقط منهم يمتلكون هذا الوعي فعلياً. تبرز هذه الفجوة مدى صعوبة تقييم ذكائنا العاطفي بدقة.

يشمل الذكاء العاطفي مهارات أساسية، مثل الوعي الذاتي، والتعاطف، وضبط المشاعر. يمكن تمييز الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء عاطفي عالٍ من خلال قدرتهم على البقاء هادئين تحت الضغط، والتعامل البنَّاء مع النقد، والتواصل الفعال مع الآخرين. يمكن أن يطور الفرد نفسه إذا كان يواجه صعوبة في التواصل أو ضبط انفعالاته على سبيل المثال.

برز مفهوم الذكاء العاطفي في السنوات الأخيرة كمحور رئيس في تحسين القيادة واتخاذ القرارات. أثّر الكتاب الرائد للكاتب "دانييل جولمان" (Daniel Goleman) "الذكاء العاطفي: لماذا يمكن أن يكون أكثر أهميةً من الذكاء العقلي" (Emotional Intelligence: Why It Can Matter More Than IQ) تأثيراً عميقاً في الفهم العام للدور الحاسم للعواطف. أبرزت هذه اللحظة التنويرية أهمية الذكاء العاطفي كمهارة أساسية لا تقتصر على الحياة المهنية فقط؛ بل تمتد لتشمل الحياة الشخصية أيضاً.

توضح رؤى جولمان أنَّ العقل البشري يمتلك طريقتين رئيستين للعمل: التفكير والشعور. لهذا السبب، يُعَدُّ الذكاء العاطفي مهارة جوهرية لتعزيز الأداء واتخاذ القرارات على نحوٍ أكثر فعاليةً ونجاحاً في جوانب الحياة المختلفة؛ حيث يقول جولمان: "فعلياُ، لدينا عقلان، أحدهما يفكر (عقلاني) والآخر يشعر (عاطفي)."

تشجع العقلية الرائجة على قمع العواطف، واعتبارها مشتّتات أو نقاط ضعف، مما يؤدي إلى انفصالنا عن "العقل العاطفي". لكن، وُصِفَ الذكاء العاطفي بجاذبية على أنَّه مزيج من الأفكار والمشاعر والأفعال.

لذا فإنَّ إتقان الذكاء العاطفي الحقيقي يتطلب مهارة المرونة والقدرة على تحقيق التوازن بين التفكير والشعور.

لكن يجب أن نتعلم كيفية الاستفادة من ذلك العقل العاطفي واستخدامه بفعالية، ثم كيفية ربطه بالعقل المفكر العقلاني، مستخدمين هذا المزيج لإعادة صياغة وجهات نظرنا، وفهم مشاعرنا، واختيار أفعالنا وقراراتنا.

بدايةً، يجب أن ندرك حقاً قيمة الذكاء العاطفي، ثم نبحث عن طرائق تطبيقه في حياتنا اليومية.

الذكاء العاطفي نقطة قوة لا ضعف

لا يعني الذكاء العاطفي الرقة أو الانفعال الشديد؛ بل إنه يقتضي توظيف المشاعر لصالح الفرد. تُظهر أبحاث "جولمان" أنَّ نجاح القيادة يعتمد على الكفاءات العاطفية والاجتماعية، وليس فقط على الذكاء العقلي أو المهارات التقنية بمفردها. القادة الأذكياء عاطفياً يفهمون تفاصيل مشاعرهم ومشاعر فرقهم، مما يسمح لهم بمواجهة المصاعب وحتى التنبؤ بالمواقف المعقدة بمرونة ووضوح.

وجدت دراسة من "مجلة علم النفس التطبيقي" (the Journal of Applied Psychology) أنَّ القادة الأذكياء عاطفياً يكونون أكثر قدرةً على إدارة الضغط والصراع في مكان العمل، مما يؤثر مباشرةً في أداء الفريق ونتائجه. تُظهر أبحاث مؤسسة "تالنت سمارت" (TalentSmart) أنَّ 90% من الأفراد الذين يقدمون أداء مميز يتمتعون بمستوى عالٍ من الذكاء العاطفي، بينما فقط 20% من ذوي الأداء المنخفض أذكياء عاطفياً. هذا يعني أنَّ القادة الذين لا يقمعون مشاعرهم؛ بل يفهمونها ويُديرونها، هم أكثر استعداداً للتعامل مع التحديات ودفع فِرَقهم نحو النجاح.

بحسب علم الأعصاب: يمكن للقادة الأذكياء عاطفياً تنظيم اللوزة الدماغية (وهي مركز المشاعر في الدماغ) من خلال تنشيط القشرة الجبهية، المسؤولة عن التفكير العقلاني واتخاذ القرارات. تمنع هذه القدرة الانجرار وراء العواطف وتسمح للقادة بالبقاء هادئين ليفكروا بوضوح ويتصرفوا بطريقة إستراتيجية.

ربما سمعت العبارة "سمِّه لتتملكه" والتي تدعمها الأبحاث العلمية، لأنَّه يمكنك حرفياً الانتقال من اللوزة (مركز المشاعر في الدماغ) إلى الجزء العقلاني من الدماغ (القشرة الجديدة) من خلال تسمية أو تحديد الشعور الذي ينتابك.

الذكاء العاطفي يؤدي إلى قرارات أكثر حكمةً

نعلم جميعاً أنَّ القيادة قد تتطلب اتخاذ قرارات سريعة وعالية المخاطر، ويمكن أن يساعدك الذكاء العاطفي في اتخاذ قرارات أسرع وأكثر حكمةً.

سوف تدرك أنَّك على وشك اتخاذ قرار متهور أو رد فعل غير محسوب عندما تتابع حالتك الشعورية. يفهم القادة الأذكياء عاطفياً المحفزات الدقيقة للضغط أو الإحباط ويمكنهم أن يرجعوا خطوة للوراء لتقييم الصورة الكبيرة، ومن ثم اختيار رد فعل مدروس (مزيج الأفكار والمشاعر والأفعال). يؤدي هذا الوعي الذاتي، مضافاً إليه القدرة على قراءة مشاعر الآخرين، إلى اتخاذ قرارات أكثر وعياً وتوازناً.

على سبيل المثال، يمكن للقادة الأذكياء عاطفياً تحديد الإشارات العاطفية غير اللفظية في المفاوضات المحمومة، ويشمل ذلك لغة الجسد، ونبرة الصوت، والتعبيرات الدقيقة. يسمح هذا لهم بتكييف إستراتيجيتهم بسرعة، مما يؤدي، غالباً، إلى نتائج أكثر إيجابيةً. وجدت دراسة من "هارفارد بيزنس ريفيو" عام 2017 أنَّ القادة الأذكياء عاطفياً هم أكثر فعاليةً بنسبة 24% في اتخاذ القرارات تحت الضغط.

الذكاء العاطفي

4 طرائق عملية لدمج الذكاء العاطفي في أسلوب القيادة

1. تعزيز الاستماع النشط

غالباً ما نستمع لنردّ، وليس لكي نفهم. لكن، يركز القادة الأذكياء عاطفياً على الاستماع لفهم الرسالة بالكامل، سواء كانت لفظية أم غير لفظية. يعزز الاستماع النشط الثقة ويضمن فهم تفاصيل الموضوع بالكامل قبل اتخاذ القرار النهائي.

نصيحة:

حاول تلخيص أو إعادة صياغة وجهات نظر الآخرين أثناء المحادثات لتؤكد أنَّك قد فهمت ما قالوه.

2. تعزيز التنظيم الذاتي

تؤكد الكاتبة "نانسي كلاين" (Nancy Kline) في كتابها "وقت للتفكير" (A Time to Think)، أنَّ جودة تفكيرنا تتأثر بعمق بالمساحة التي نوفرها له. لذا، فكر في إنشاء "بيئة تفكير" تسمح بالتفكير العميق لمساعدتك في إدارة ردود الفعل الاندفاعية. يمكنك على سبيل المثال أن تخصص فترات زمنية قصيرة للتفكير قبل البتّ في القضايا الهامة، أو لطرح أسئلة دقيقة تساعدك في فهم الموضوع وحل المشكلات.

الإجراء:

تنصح "كلاين" بممارسة "جولات التفكير" ضمن الفريق؛ حيث يحصل كل فرد على وقت مخصص للتحدث دون خوف من المقاطعات. يعزز هذا الأسلوب الانضباط العاطفي، ويضمن اتزان ردود فعل المشاركين حتى في المواقف العصيبة.

3. تعزيز الوعي الذاتي

يجب تنمية مهارات الوعي الذاتي من أجل تحسين القدرة على ضبط النفس، ولدى "هارفارد بيزنس ريفيو" إطار عمل قائم على الأبحاث يستند إلى "4 نماذج للوعي الذاتي" التي ترتكز على مدى معرفتك بنفسك (الوعي الذاتي الداخلي) مقابل مدى فهمك لكيفية رؤية الآخرين لك (الوعي الذاتي الخارجي). إنَّه إطار عمل يستحق الاستخدام كأداة تأمل.

الإجراء:

تؤكد "هارفارد بيزنس ريفيو" أنَّ التأمل الجيد يتضمن طرح أسئلة "ماذا" أكثر من أسئلة "لماذا". تؤدي أسئلة "لماذا" إلى أنماط تفكير سلبية وغير مجدية، بينما تنتج "ماذا" أفكار موضوعية ومستقبلية تمكِّنك من التصرف بناءً على الاستنتاجات الجديدة.

4. تنمية التعاطف

التعاطف جانب أساسي من الذكاء العاطفي؛ حيث يفهم القادة الأقوياء أنَّه يمكنهم إلهام وتحفيز فِرَقهم من خلال التفاعل مع حالاتهم العاطفية، كما يمكنهم تقليل النزاعات وقيادة التغيير والتحول بنجاح. ذلك لأنَّ القادة الأذكياء عاطفياً يمكنهم تعديل أساليبهم بناءً على المتغيرات الجديدة، مما يجعلهم أكثر مرونةً في مواجهة التغيير.

الإجراء:

حاول ممارسة تمرين "إعادة التشغيل"، وهو مصطلح شهير يعني إعادة تشغيل تسجيل أو فيديو أنت تعرفه بالفعل. بعبارةٍ أخرى، يمكنك "إعادة تشغيل" كل محادثة تجريها لمراجعة ما قد قلته ولكن من منظور الطرف الآخر. على سبيل المثال، بعد (أو قبل) إرسال بريد إلكتروني أو رسالة صوتية، "أعد التشغيل" واسأل نفسك:

  • ما الذي عبرت عنه بما يخالف ما يدور في رأسي؟
  • ما الذي يمكن أن يُفهم بصورة خاطئة؟

كيف يميزك الذكاء العاطفي عن الآخرين؟

صنَّف "المنتدى الاقتصادي العالمي" (World Economic Forum) مؤخراً الذكاء العاطفي كأهم مهارة قيادية لعام 2024، مؤكداً على أهميته في مواجهة التعقيدات وعدم اليقين الذي يعتبر السمة الأبرز في عالم الأعمال اليوم.

إذاً، الذكاء العاطفي هو مهارة قيادية أساسية وميزة تنافسية في عالم الأعمال الذي يتسم بالتنافس المتزايد. القدرة على التواصل مع الآخرين (سواء فكرياً أو عاطفياً) هي المهارة الأساسية والثروة الحقيقية لأي قائد اليوم بغض النظر عن أسلوب قيادته.

يشدد "جولمان" على أهمية الذكاء العاطفي للقادة بقوله: "يُوظَّف الرؤساء التنفيذيين بناءً على ذكائهم وخبراتهم، ويُفصَلون بسبب افتقارهم للذكاء العاطفي". يوضح ذلك أنَّ أهمية معدل الذكاء العقلي تنخفض مع الارتقاء في المنصب بينما تزداد أهمية الذكاء العاطفي. لكن للأسف، قد يصبح من الصعب تطوير الذكاء العاطفي مع امتلاك قدر أكبر من السلطة، لأنَّه كما اكتشف أستاذ الأعمال "جيمس أوتول" (James O’ Toole) في أبحاثه، "كلما زادت قوة القائد، تقل رغبته في الاستماع، إما لأنَّه يعتقد أنَّه يعرف أكثر من موظفيه أو لأنَّ طلب التغذية الراجعة سيكون له عواقب".

في الختام

يُعَدُّ الذكاء العاطفي مهارةً جوهريةً تميز القادة الناجحين عن غيرهم؛ حيث يساعدهم في إدارة الضغوط، واتخاذ قرارات مدروسة، والتفاعل بفعالية مع فرقهم. من خلال تعزيز الوعي الذاتي، وتنمية التعاطف، وتحقيق التوازن بين العقل والعاطفة، يمكن للقادة تحقيق أداءٍ متميز وقيادة فرقهم نحو النجاح. تبقى هذه المهارات ضرورة حتمية لمواجهة التحديات والتعقيدات في عالم الأعمال الحديث.

The last articles

Be up to date with the latest news

Subscribe now to get the latest articles, research, and products that make you stronger than ever