لعلَّك جربت شعور الاندماج في قصة مشوِّقة دفعتك إلى مشاهدة الحلقة التالية من مسلسلك المفضل، أو تقليب صفحات رواية آسرة لكاتب تحبه، أو الاستغراق في تفاصيل حدث درامي يرويه صديق مقرَّب.
تكمن هنا فعالية فن السرد القادر في أسر قلوب البشر وعقولهم منذ فجر التاريخ. مع ذلك، كثيراً ما نقلل من شأن هذا الفن في البيئات المهنية، فنستعيض عنها بعروض الشرائح، والرسوم البيانية، والمصطلحات المؤسسية الجامدة التي نادراً ما تثير اهتمام أحد، ناهيك عن إلهامه لاتخاذ خطوة أو تبنِّي رؤية.
تشير الأبحاث – إلى جانب تجارب القادة العظام – إلى أنَّ استخدام السرد القصصي في القيادة يُعد أداة محورية، لكن مهملة إلى حد كبير، رغم فعاليتها في التأثير والتعليم وتحفيز الآخرين على اتخاذ المبادرة.
مفهوم السرد القصصي في القيادة
يُعد السرد القصصي القيادي مهارة مخصصة يستخدمها القادة لإضفاء العاطفة والمعنى على رسائلهم من خلال توظيف القصة البسيطة والمؤثرة؛ إذ يمكن استخدام القصص لمشاركة الرؤية والتعبير عن "السبب الجوهري" الذي يدفع القائد للاندماج في شركة أو مشروع أو مسار تغيير معيَّن. كما تُمكِّن القصص القيادية الموظفين من التواصل مع القائد على مستوى شخصي، مما يعزز روح الارتباط والإلهام داخل الفريق.
لا يتبع الموظفون في نهاية المطاف قادة لا يعرفونهم ولا يفهمون دوافعهم، ولا يمكن للقادة تحقيق أي تقدم فعلي إذا لم يرَ الفريق فيهم أشخاصاً حقيقيين، غير مثاليين، لكنَّهم يمتلكون رؤية حقيقية وواضحة للمؤسسة.
من أبرز السُبل التي تساعد الآخرين على التعرُّف إلى القائد وفهمه هي مشاركة القصص التي تسرد تجاربه وتربطه بالموظفين على نحو شخصي وإنساني.
أهمية سرد القصص في القيادة
أظهرت الدراسات النفسية مراراً أنَّ الحقائق ترسخ في الذاكرة أكثر حين تُروى في إطار قصصي، وقد وجدت عالمة النفس التنظيمي "بيغ نوهاوزر" (Peg Neuhauser) أنَّ الأفراد يفهمون ما يتعلمونه من القصص المحبوكة بدقة أكبر، ويتذكرونه لفترة أطول، مقارنة بالتعلم من خلال المعطيات والأرقام المجردة.
في مقال تستشهد به مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" (Harvard Business Review) حول السرد القصصي في الأعمال، أجرت محررة رفيعة المستوى في المجلة مقابلة مع المحاضر والمخرج المعروف في فن كتابة السيناريو، "روبرت ماكي" (Robert McKee)، للوقوف على أهمية السرد القصصي للقادة في عالم الأعمال، وقد قال "ماكي":
"يكمن جزء كبير من مهمة المدير التنفيذي في تحفيز الناس على بلوغ أهداف معينة، ولتحقيق ذلك لا بد من التأثير في عواطفهم من خلال سرد القصص؛ إذ يستلزم عرض فكرة تحمل قوة عاطفية كافية لتظل عالقة في الأذهان بصيرة حادة ومهارة في السرد. فإذا وظَّفتَ الخيال وعناصر القصة المتقنة، ستحظى باهتمام الجمهور وانتباههم".
أشار "ماكي" إلى أنَّ عروض الشرائح، باتت أساسية في بيئات العمل المعاصرة، لكنَّها أحياناً لا تحقق التفاعل المطلوب من الجمهور. فعلى الرغم من أنَّ هذه العروض لا تزال أداةً هامّةً من أدوات القيادة في بيئة العمل، إلَّا أنَّ القادة يجب أن يبحثوا عن طرائق جديدة لاستخدام القصص في التواصل؛ لما لذلك من أثر في بناء الثقة وإقامة روابط إنسانية حقيقية مع الموظفين.
ختَمَ قائلاً: "القصص هي وسيلتنا للتذكُّر، أمَّا القوائم والنقاط المختصرة فننساها".
3 من أفضل الممارسات لسرد القصص في القيادة
1. إبراز الصدق في القصص
يجب أن يلتزم القادة بالصدق في القصص التي يروونها، فالموظفون يتعرضون لسيل من المعلومات يومياً، ما يجعلهم متعطشين للصدق والكلام الهادف من قادتهم، وحين يشعرون بأنَّهم صادقون معهم بحق، ستتعزز الثقة التي تُعد جوهر أية ثقافة تنظيمية متميزة.
قال مؤلف كتاب "ابدأ بالأسباب" (Start with Why) "سيمون سينك" (Simon Sinek)، والذي يشدد على أهمية الصدق في القيادة: "حين نكون في موقع المسؤولية، كثيراً ما نسعى جاهدين لنبدو متماسكين وواثقين من أنفسنا، لكنَّ القيادة بصدق وتعاطف تقتضي إظهار إنسانيتنا أيضاً".
يستخدم القادة السرد القصصي ليشاركوا رؤاهم وما يلهمهم؛ إذ تساعد القصة على توضيح سبب ارتباطهم العميق بتلك الرؤى، فقد يشارك طبيب أصبح اليوم مديراً تنفيذياً لشركة أدوية قصة توضِّح كيف حقَّقَت الأدوية الجديدة حلمه بتغيير حياة الناس على نطاق أوسع، كما يروي مالك سلسلة مطاعم كيف أنَّ إرضاء الناس لا يقتصر على جودة الطعام فحسب؛ بل يتجلى أيضاً في كونه ركناً من أركان المجتمع.
لا يُشترط أن تتمحور القصة حول تجربة شخصية للقائد، فربما يقرر مشاركة موقف أثَّر فيه، فقد يذكُر مدير مستشفى كيف ألهمه تصرف ممرضة خرجت عن نطاق مسؤولياتها لمساعدة مريضة على العثور على غرفتها، ثم جلست معها لبعض الوقت؛ لأنَّها كانت قلقة من عملية جراحية كانت ستجريها. ربّما تبدو هذه القصة بسيطة، لكنَّها تبرز التعاطف مع المرضى وتُشعر الفريق بأكمله بالفخر؛ بسبب تقدير القيادة لسلوك أحد أعضائه.
2. ربط القصة بقيمة حقيقية للموظف
لكي تكون القصص ذات مغزى، لا بد أن تتضمن رسالة أو هدفاً واضحاً، فحين تكون المؤسسة على وشك إجراء تغيير كبير، يحتاج الموظفون إلى فهم سبب هذا التغيير، وكيف سيجعل تجربتهم العملية ومستقبلهم الوظيفي أكثر قيمة وجدوى، أمَّا إذا بدا الأمر مجرد عبء إضافي دون فائدة واضحة، فإنَّ قصة التحول ستفشل حتماً في إلهام الموظفين.
يُشار عادة إلى هذه النقطة الجوهرية بسؤال: "ما الفائدة التي سيعود بها التغيير عليَّ؟"، وهو غالباً السؤال الأول الذي يدور في ذهن أي موظف عند حدوث أي تغيير، فحتى أفضل القصص لن تُحفز الموظفين إذا لم تُجب بصدق ووضوح عن هذا السؤال.
3. دعوة الموظفين لسرد القصص
لا يقتصر تأثير سرد القصص على القادة فحسب؛ بل يُعد أداة فعالة للغاية في أوساط الفِرَق كذلك، فيمكن أن يُطلب من الموظفين الجدد في الفريق أن يُجروا مقابلات مع بعضهم بعضاً، ثم يُقدِّم أحدهم الآخر لبقية الفريق، مما يبني روابط وألفة منذ البداية.
حين يتعرّف أعضاء الفريق إلى قصص بعضهم، سواء على الصعيد الشخصي أم المهني، فإنَّهم يكوِّنون روابط تمتد إلى بيئة العمل، ويُطوِّرون ممارسات عمل تقوم على الاحترام المتبادل لجهود الآخرين وأوقاتهم واحتياجاتهم المختلفة.
كما يفتح سرد القصص المجال أمام الموظفين لمشاركة آرائهم بشأن مشروع معيَّن، أو منتج جديد أُطلق، أو تجاربهم الإيجابية في خدمة العملاء أو المرضى أو الزبائن الجدد، مما يتيح للموظفين فرصة للتألُّق، وفي الوقت نفسه يُشارك أفضل الممارسات التي تعود بالنفع على الفريق بأكمله.
سمات السرد القصصي في القيادة
عند صياغة قصة، من الهام أن تكون ملهمة وجاذبة للجمهور، فتُساعدهم على تبنِّي رؤى جديدة، وتُعزز الروابط التي تُضفي معنى على المواقف أو المعلومات، ومهما كان الهدف النهائي من سرد القصة، فإنَّ القصة الفعالة يجب أن تتصف بما يأتي:
- البساطة وسهولة السرد والتذكر: الهدف هو جذب الانتباه بسرعة والتميز في السرد.
- الإيجاز والوضوح: في ظل الكم الهائل من مصادر المعلومات التي تُحيط بنا باستمرار، يبلغ متوسط مدة انتباه الشخص قرابة 8 ثوانٍ فقط. لا يعني هذا أنَّ على القصة أن تُروى خلال أقل من عشر ثوانٍ؛ بل هو تذكير بأهمية الإيجاز للمحافظة على اهتمام المستمعين.
- الصدق والهدف: اربط القصة بالنتيجة التي تطمح إلى تحقيقها من خلال تسليط الضوء على التحديات وإبراز كيفية التغلب عليها.
- إعادة السرد: لتعزيز انتشار الرسالة وتوسيع نطاق جمهورها، يجب الاستمرار في تكرار القصة بما يُلهم الآخرين لإعادة سردها أيضاً.
قالب للسرد القصصي في القيادة
ما الفرق إذاً بين القصص التي نرويها في بيئة العمل وتلك التي نشاركها خلال الجلسات العائلية مثلاً؟ يكمن الفرق الأساسي في أنَّ القصة في مكان العمل، تحمل هدفاً أو مغزى، فهي تنتهي بخلاصة تساعد الموظفين على فهم النقاط الهامة، وتربط القصة بسلوك مرغوب فيه أو نتيجة منشودة.
عند صياغة قصة تدعم هدفاً مهنياً، يُنصَح باستخدام هذه الصيغة البسيطة:
السياق + الشخصيات + التحدي أو الصراع + المغزى = القصة.
حدِّد هذه العناصر في القصة التالية:
"نعمل أنا وزوجتي على مشروع تجديد منزل كنا نعتقد أنَّه يحمل فرصاً كبيرة، لكن بعد شرائه، أدركنا أنَّه يحتاج إلى عمل أكثر بكثير مما كنا نظن، وفي الواقع، هدمناه وبنيناه من جديد. ذكَّرتني هذه التجربة بعملنا في مجال الأعمال الموجهة للمستهلك، لقد كان منزلاً رائعاً في السابق، لكنَّه الآن مُهمَل للغاية، ولكن عند الانتهاء من العمل، نعلم أنَّه سيكون مربحاً، والأهم من ذلك، سنشعر بالفخر بما أنجزناه معاً".
- السياق: مشروع تجديد منزل يتطلب جهداً غير متوقع، وهو سياق يهم الجمهور على الصعيدين الشخصي والمهني.
- الشخصيات: المتحدث وزوجته.
- التحدي: الحاجة إلى بذل جهد أكبر مما كان متوقعاً لإتمام المهمة.
- المغزى: أنَّ العمل الإضافي سيقود إلى نتائج إيجابية، وأنَّ روح الفريق والوحدة هي ما يصنع الفارق.
ما الذي يرغب الموظفون في معرفته عن قادتهم؟
يستخدم القادة القصص لـ تحقيق أهداف متعددة في مؤسساتهم، مثل: مساعدة الموظفين على فهم الاستراتيجيات من خلال أمثلة واقعية، وتوضيح رؤيتهم المستقبلية لتحولات الشركة، وبناء الثقة من خلال مشاركة التحديات والتجارب الشخصية.
يُنصَح لهذا السبب بأن ينشئ القادة مكتبة من القصص القصيرة المستمدة من تجاربهم المخصصة، يستخدمونها لإبراز الرسائل الأساسية، وتوضيح القِيَم، وتعزيز السلوكات المرغوبة.
اتبَّع هذا النهج لإنشاء مكتبتك المخصصة من القصص الهادفة التي يمكن استخدامها في تواصلك اليومي مع الفريق، وعند إنشاء القصص التي تتوافق مع أهدافك وتؤثر في الجمهور، من المفيد أن تضع في الحسبان الأسئلة التي تدور في أذهان الموظفين عادة حول قادتهم.
أسئلة يطرحها الموظفون على قادتهم
لا يتمحور كل شيء حول المؤسسة، فالموظفون يريدون أن يتعرفوا على الجانب الإنساني للقائد، وما يحفزه ويهمه، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك في الفريق. في ما يلي، بعض الأسئلة الشائعة:
- كيف وصلت إلى هذا المنصب؟
- كيف تود أن يعرفك الناس؟ وما الذي يحفزك؟
- ما هي توقعاتك من الموظفين؟
- ما الذي يجب أن يتوقعه الموظفون منك؟
- ما المبادئ أو القِيَم التي لن تتنازل عنها مهما كانت الظروف؟
أسئلة عن المنظمة وأهدافها
القادة هم المصدر الأساسي للمعلومات حول هوية المنظمة ورؤيتها وأهدافها؛ إذ يساعد سرد القصص سرداً مقنعاً الموظفين على فهم الإجابات عن أسئلة مثل:
- ما هي رؤيتك للمستقبل؟ ولماذا يجب أن يثق الناس بك وبالرؤية؟
- من نحن؟ وما هو جوهر عملنا؟
- ما هي أهدافنا واستراتيجياتنا؟
- ما هي المبادرات التي تقود العمل اليوم؟ وماذا عن المستقبل؟
- ما هي السلوكات أو المهارات الجديدة التي تتوقع من الموظفين تبنِّيها لتحقيق النتائج؟
- ما هو شكل النجاح بالنسبة لنا؟
- كيف نقيِّم النجاح؟
- ما التغييرات المطلوبة لتحقيق هذه الرؤية؟
كيفية استخدام سرد القصص في إيصال الرسائل القيادية الشاملة
يُعد سرد القصص في القيادة الفعالة أداة قوية ضمن استراتيجية التواصل الداخلي الشاملة، وليس نشاطاً مستقلاً، فهو يوصِل الرؤية والأهداف الاستراتيجية بإنسانية وإلهام.
نحدد عادةً عند تطوير منصة رسائل توضِّح استراتيجية الشركة أو رؤية القائد الرسائل الأساسية والنقاط الداعمة التي تشكل انطباع الجمهور وتعزز التوجه الاستراتيجي العام، وبعد تأكيد هذه الرسائل، نطور قصصاً حقيقية تعطي هذه الرسائل بُعداً عاطفياً يجعلها مؤثرة وقابلة للتذكر.
يُذكَر من الأمثلة البارزة عن قوة السرد القيادي، خطاب "شيريل ساندبرغ" (Sheryl Sandberg)، المديرة التنفيذية السابقة في "فيسبوك" (Facebook)، والتي ألقت خطاباً مؤثراً أمام قرابة 2000 خريج من كليات مدينة شيكاغو (City Colleges of Chicago).
ما جعل خطابها مميزاً لم يكن الإحصاءات أو لغة العمل؛ بل القصص الإنسانية التي ربطت رسائلها بجمهورها مباشرة، وهو جمهور ضم عدداً من المهاجرين والأقليات والطلاب الكبار في السن ممن يوازنون بين الدراسة والأسرة.
ذكرت "ساندبرغ" قصة عائلتها المهاجرة التي بنَت حياة جديدة في الولايات المتحدة، وكيف تخرَّج جدها من كلية مدينة نيويورك (City College of New York)، مما فتح فرصاً للأجيال التالية، بما في ذلك هي شخصياً.
لقد تحدثت بصدق عن مشاعر عدم الثقة بالنفس التي واجهتها في شبابها، والأخطاء التي ارتكبتها في مسيرتها المهنية والدروس التي تعلمتها منها.
فكِّر في هذه الأسئلة لاستخدام القصص في رسائلك القيادية:
- ما هي التجارب الشخصية التي يمكن أن تلهم فريقك؟
- ما هي التجارب التي تجعلك قريباً من الناس؟ قد تتحدث عن أول تجربة مهنية لك.
- ما الأخطاء التي شكَّلت أسلوبك في القيادة؟
- ما التجارب التي تربطك عاطفياً برؤية الشركة أو بفريقك؟
في الختام
كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن القيادة بالسرد القصصي؛ ففي ظل الكمّ الهائل من المعلومات التي يتلقاها الموظفون اليوم من حقائق وأرقام وعروض تقديمية، تبقى القصة هي الأداة الأقوى والمؤثرة في يد القادة.
فكِّر في أفضل العروض التقديمية التي حضرتها خلال الأشهر أو السنوات الماضية، لعلَّ ما جعلها مميزة هو أنَّ المتحدث قد شارك قصة تتذكرها حتى اليوم. لا يعني هذا أنَّ العروض التقديمية يجب أن تكون مليئة بالقصص؛ بل أنَّنا بحاجة إلى البحث عن طرائق لإضفاء الطابع القصصي على تواصلنا إذا كنا نرغب في تحفيز فرقنا ودفعها للعمل.