فقدت الممارسات الإدارية التقليدية فعاليتها بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولم تعُد منهجيات تحفيز الموظفين وتعزيز اندماجهم وإنتاجيتهم تحقِّق النتائج المتوقَّعة، ثمَّ غيَّر بعدها علم الأعصاب واقع القيادة والتنمية التنظيمية عبر تقديم أساليب فعَّالة ومستدامة تعتمد على آلية عمل الدماغ.
يساعد فهم آلية عمل الدماغ القادة على اتِّخاذ قرارات أفضل تصبُّ في مصلحتهم ومصلحة فِرَقهم، ويكشف علم الأعصاب العوامل التي تثير التوتر، وما يعزِّز الإبداع ويقوِّضه، وما يحسِّن العلاقات ويُضعفها بين القادة وموظفيهم.
يقدِّم هذا المجال الناشئ المعروف باسم "القيادة العصبية" (Neuroleadership) معلومات جديدة حول فن وعلم القيادة، ويبحث المقال في أبرز نتائج علم القيادة العصبية.
تصور التهديد يقلّل من قوة العقل
إنَّ الدماغ مهيَّأٌ بغريزة بقاء تطوُّرية، فيتفحَّص البيئة المحيطة باستمرار بحثاً عن المخاطر والتهديدات، وعلى الرغم من أنَّ المخاطر التي نواجهها اليوم تختلف عن تلك التي واجهها أسلافنا، ولكن ما زالت أجسادنا لا تميِّز الخطر الحقيقي عن سواه. تُظهر ردات الفعل ذاتها، فحين نواجه تهديداً، مثل تلقِّي النقد القاسي من المدير أمام الفريق، يعمل الجهاز العصبي الودي، فيزيد معدَّل ضربات القلب، وتتوتر العضلات، فيثير الدماغ استجابة الكر أو الفر، ثمَّ تنشط اللوزة الدماغية المسؤولة عن العاطفة في الدماغ، بينما تتراجع قشرة الفص الجبهي المسؤولة عن حلِّ المشكلات المعقَّدة واتِّخاذ القرارات.
ينقذنا التوتر في حالات الخطر الحقيقي أحياناً، ولكنَّ معظم الضغوطات التي نواجهها اليوم لا تهدِّد حياتنا، وبالتالي تؤثر هذه الاستجابة المزمنة سلباً في الأداء والسلامة النفسية. يقلِّل التوتر الإبداع والقدرة على التفكير المعقد؛ لذا من أهم الدروس التي يجب أن يتعلَّمها القادة من علم الأعصاب هو تقليل التهديدات في مكان العمل للحفاظ على أداء االموظفين وصحتهم النفسية.
القيادة بعطف
يتأثر الدماغ في العواطف السلبية أكثر من الإيجابية، فقد ننسى الإطراءات التي نتلقاها، ونطيل التفكير في أخطائنا البسيطة. تلك استجابة تطوُّرية أيضاً؛ لأنَّه بالنسبة لأسلافنا كان اكتشاف المنبِّهات السلبية، مثل الحيوانات المفترسة أهم من المنبِّهات الإيجابية، مثل إيجاد الطعام، ولكن يمكن أن يؤدي الانحياز للسلبية إلى عرقلة الابتكار في بيئة العمل اليوم.
من هنا تأتي أهمية القيادة الإيجابية؛ فتُظهر الأبحاث أنَّ تركيز القادة على الإيجابيات والإمكانيات عند تقديم الكوتشينغ للموظفين ينشِّط مناطق الدماغ المرتبطة بالانفتاح والتعلم والقدرة على التكيُّف، في حين يؤدي التركيز على الجوانب السلبية المحتملة، مثل الامتثال والمراقبة إلى إثارة الاستجابة الدفاعية في أدمغة الموظفين.
يركِّز القادة إذاً على الرؤى الإيجابية في نقاشاتهم مع الموظفين، بهدف تهيئة الظروف المعرفية والعاطفية اللازمة للإبداع والاندماج، فيتحدَّث القادة بعدها عن أمور، مثل المقاييس وبيانات الأداء. أمَّا إذا تحدَّثوا عن هذه الموضوعات من البداية، فمن الممكن أن يحبطوا الموظفين، ويقوِّضوا أداءهم.
الخلايا العصبية المرآتية
قد تؤدي محاولة التصرف بإيجابية دون الشعور بذلك إلى نتائج عكسية، ويعود هذا إلى الخلايا العصبية المرآتية، وهي خلايا دماغية تجعلنا نتأثر في العواطف من حولنا، فإذا كان القائد يشعر بالإحباط، ولكنَّه يرسم ابتسامة مزيَّفة على وجهه، سيكتشف فريقه سلبيته الكامنة.
لذا، يجب أن يدرك القادة عواطفهم ويضبطوها قبل التفاعل مع فرقهم، فتُدرِك ممارسات اليقظة الذهنية العواطف، وتغيِّر المشاعر السلبية قبل أن تؤثر في الآخرين، ممَّا يُنشِئ بيئة عمل إيجابية تعزز إنتاجية الموظفين.
القيادة العلائقية (Relational Leadership)
نستنتج من جميع الأفكار السابقة إذاً أنَّ القادة الفعالون هم الذين يركِّزون على العلاقات وليس على المهام والعمل فقط؛ إذ تُنشِئ القيادة التبادلية (Transactional leadership) التي تركز على المهام والنتائج بيئة عمل يشعر فيها الموظفون بالكبت العاطفي، ممَّا يقوِّض أداءهم، ويؤدي بهم إلى الاحتراق الوظيفي بمرور الوقت.
تبني القيادة العلائقية الثقة على الجانب الآخر وتعزِّز التواصل المتبادل، وتدعم الاحتياجات العاطفية للموظفين، ويُظهر علم الأعصاب أنَّ هذه الروابط العاطفية هامة لتحسين الأداء والابتكار، فحين يشعر الموظفون بأنَّهم محطُّ تقدير، تزداد دوافعهم وإبداعهم، ويحقِّقون أهداف المنظمة.
تُظهر الأبحاث أنَّ مناطق الدماغ المرتبطة بالتفكير الشامل والتنظيم العاطفي تنشُط عند القادة الذين يقدِّمون رؤية تفيد الموظفين والعملاء وأصحاب المصلحة على حدٍّ سواء، ممَّا يعني أنَّ اهتمام القادة بالعلاقات والشمولية لا تفيد الفريق فحسب؛ بل تعزز المرونة العاطفية والأداء المعرفي لدى القادة أيضاً.
في الختام
قدَّمَ علم الأعصاب طرائق جديدة لفهم ما يعزز فعالية القادة، وقد تبيَّن أنَّ القادة الناجحون هم الذين يركِّزون على العلاقات ويهتمون بسلامتهم وسلامة فرقهم النفسية. يستطيع القادة الاهتمام بسلامة الموظفين وتعزيز الابتكار من خلال إدارة التوتر، وتحسين الروابط العاطفية الإيجابية، والتركيز على القيادة العلائقية، ممَّا يُنجِح بدوره المنظمة.
تُنشِئ القيادة الفعالة وفق علم الأعصاب ثقافة عمل تشجِّع على الرعاية والتواصل والإبداع وتمكِّن الجميع من تقديم أفضل أداء.