هل فكرت يوماً في التكلفة الحقيقية لضغط العمل على فريقك؟ وهل الصحة النفسية للفريق أولوية حقيقية في أجندتك كقائد، أم أنَّها مجرد شعار يُردد؟ تُعدّ هذه القضية تحدياً متزايداً في عالم الأعمال؛ إذ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنّ نحو 300 مليون شخص في أنحاء العالم جميعها، يتأثرون بالاكتئاب والقلق، وهما اضطرابان نفسيان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بضغوطات بيئة العمل. سنقدم لك، في هذا المقال، استراتيجيات عملية لتحويل هذا التحدي إلى فرصة، فتابع معنا.
لماذا أصبحت الرفاهية أولويةً قصوى للقيادة في عام 2025؟
تجاوز الاهتمام بالرفاهية في مكان العمل مجرد كونه ميزةً إضافية، ليصبح عنصراً استراتيجياً حاسماً لنجاح الشركات. في هذا القسم، سوف نستعرض الأسباب التي جعلت من رفاهية الموظفين ركيزة أساسية لأية قيادة تسعى إلى التفوق في سوق العمل التنافسي.
1. الارتباط بين الصحة النفسية والإنتاجية
تُعدّ الصحة النفسية للفريق محركاً أساسياً للإنتاجية والابتكار؛ فعندما يشعر الموظفون بالدعم والاستقرار النفسي، فيكونون أكثر قدرةً على: التركيز، والتفكير الإبداعي، وتقديم أفضل ما لديهم.
في المقابل، يؤثر الإرهاق والضغط مباشرةً في أداء العمل، فوفقاً لدراسة صادرة عن مؤسسة "فيرست أب" (Firstup)، أفاد أكثر من نصف المشاركين (55%) بأنَّ التوتر يساهم في:
- الشعور بالإرهاق الوظيفي.
- تقليل دافعيتهم بنسبة 48%.
- التأثير سلباً على الأداء العام للعمل بنسبة 37%.
2. التكاليف الاقتصادية للإهمال
يحمّل إهمال الصحة النفسية للموظفين تكلفةً باهظةً على الشركات. تُظهر الإحصائيات أنَّ الإرهاق الوظيفي والأمراض النفسية هي من الأسباب الرئيسة للتغيّب عن العمل وارتفاع معدلات الدوران الوظيفي، مما يزيد من نفقات التوظيف والتدريب.
وبحسب تقرير صادر عن شركة "ماكنزي آند كومباني" (McKinsey & Company)، يمكن أن يؤدي تحسين الرفاهية في مكان العمل على الصعيد العالمي إلى خلق قيمة اقتصادية تصل إلى 11.7 تريليون دولار.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت منظمة الصحة العالمية في دراسة سابقة قادتها، نشرت في عام 2016، إلى أنَّ الاستثمار في علاج الاكتئاب والقلق يعود بأربعة دولارات أمريكية مقابل كل دولار واحد يتم إنفاقه، وذلك عن طريق تحسين الصحة وزيادة القدرة على العمل.
3. جذب المواهب والاحتفاظ بها في سوق تنافسي
أصبحت برامج الصحة النفسية من أهمّ العوامل التي تجذب المواهب وتجعلهم يفضلون شركة على أخرى؛ فقد أظهرت دراسة أجرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس (American Psychological Association) أنَّ 92% من الموظفين يعدّون العمل في مؤسسة تقدّر الرفاهية في مكان العمل أمراً هاماً، مما يؤكد دور القائد في الصحة النفسية كعنصر حاسم في رضا الموظفين والاحتفاظ بهم.
بالإضافة إلى ذلك، لا يُعد بناء بيئة عمل داعمة تعطي الأولوية لرفاهية الموظف مجرد ميزة فحسب، بل هي:
- رسالة واضحة عن قيم الشركة.
- عامل يعزز الولاء ويقلل معدلات الاستقالة.
- عامل يساعد على بناء سمعة قوية للشركة كوجهة عمل مفضلة.
"أصبحت الرفاهية أولويةً قصوى للقيادة؛ لأنَّها تؤثر مباشرةً في الأداء. عندما يتمتّع الموظفون بصحة نفسية جيدة، يغدون أكثر إنتاجية، وابتكاراً، والتزاماً. لذا، يقلل الاستثمار في هذا الجانب من تكاليف دوران الموظفين ويزيد من جاذبية الشركة للمواهب الجديدة".

استراتيجيات فعالة لدعم الصحة النفسية للعاملين عن بعد
يشكّل العمل عن بعد والصحة النفسية تحدياً فريداً يتطلب حلولاً مبتكرة من القادة؛ إذ يمكن للشعور بالعزلة والإرهاق من التواصل الافتراضي أن يؤثر سلباً في الموظفين.
إليك مجموعةً من الاستراتيجيات التي تساعدك في بناء بيئة عمل داعمة ومراعية لرفاهية فريقك عن بُعد:
1. تحديد حدود واضحة بين العمل والحياة الشخصية
من الضروري وضع قواعد واضحة لمساعدة الموظفين على الفصل بين أوقات العمل والراحة، وخاصةً عندما يكون المنزل هو مكان العمل. بالإضافة إلى ذلك، يجب على القادة تشجيع الموظفين على تسجيل الخروج في نهاية يومهم، وعدم توقع استجابات سريعة خارج ساعات العمل الرسمية.
وقد تبين أنَّ إنشاء "مناطق خالية من الاتصالات" بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية، وتوفير جلسات دعم فردية، ساهم مساهمةً كبيرة في تقليل الشعور بالإرهاق الوظيفي بين أعضاء الفريق؛ فهذه الخطوات البسيطة تؤكد للفريق أنَّ وقتهم الشخصي محل احترام.
2. تشجيع التواصل المفتوح وتقديم الدعم النفسي
يجب أن يكون القائد جسراً للتواصل، ويشجع أعضاء الفريق على التعبير عن مخاوفهم بصراحة وشفافية. يمكن تحقيق ذلك عن طريق:
- عقد لقاءات فردية منتظمة (One-on-One) لمناقشة الحالة النفسية والمهنية للموظف خاصةً.
- توفير قنوات تواصل مخصصة (مثل قنوات على "سلاك" (Slack) أو "مايكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams) للمحادثات غير الرسمية والاجتماعية.
- إتاحة الوصول إلى متخصصين أو منصات تقدم جلسات دعم نفسي فردية.
3. إرسال أدوات وموارد لدعم رفاهية الموظفين
يُعدّ تقديم الموارد الملموسة دليلاً واضحاً على التزامك بالرفاهية في مكان العمل؛ إذ يمكن للقادة توفير مجموعة متنوعة من الأدوات التي تدعم الصحة الجسدية والنفسية للموظفين، ومن أبرزها:
- اشتراكات في تطبيقات التأمل واليقظة الذهنية مثل "هيد سبيس" (Headspace).
- عضويات في دروس اللياقة البدنية الافتراضية أو ورش عمل حول إدارة التوتر.
- ميزانية مخصصة للمعدات المكتبية المنزلية المريحة.
- جلسات توعية حول أهمية الصحة النفسية يديرها مختصون.
"لدعم الصحة النفسية للعاملين عن بعد، يجب على القادة وضع حدود واضحة لتجنب الإرهاق الوظيفي. لذا، شجع فِرقك على قطع الاتصال بعد ساعات العمل، واستثمر في برامج الدعم النفسي عن بعد، وقدم لهم موارد وأدوات تساعدهم على إدارة ضغوط العمل من المنزل".
بناء بيئة عمل داعمة تقلل الإرهاق وتزيد المرونة
تتطلب القيادة الفعّالة اليوم ما هو أكثر من مجرد تحقيق الأهداف؛ فهي تتطلب القدرة على بناء بيئة عمل داعمة تُعزز من الصحة النفسية وتزيد من قدرة الفريق على التكيف.
في هذا الجزء، سوف نستعرض أبرز الاستراتيجيات التي تمكّن القادة من دعم فرقهم دعماً حقيقياً.
1. الاستماع الفعّال للموظفين وفهم احتياجاتهم
تبدأ أولى خطوات بناء بيئة عمل داعمة من الاستماع الصادق للموظفين. ولا يقتصر هذا على مجرد تلقي ملاحظاتهم، بل يتجاوزه إلى فهم التحديات التي يواجهونها في عملهم وحياتهم الشخصية.
فعندما يشعر الموظف بأنَّ صوته مسموع، يزداد شعوره بالانتماء، ويتراجع لديه الإحساس بالعزلة والضغط. يمكن للقادة تطبيق ذلك من خلال:
- عقد اجتماعات فردية منتظمة.
- استطلاعات رأي سرية.
- تشجيع قنوات التواصل المفتوحة التي تضمن عدم وجود حواجز.
2. توفير المرونة في ساعات العمل
تُعدّ المرونة عاملاً حاسماً في تخفيف الإرهاق الوظيفي وتعزيز التوازن بين العمل والحياة؛ إّ تتيح ساعات العمل المرنة للموظفين إدارة التزاماتهم الشخصية بفعالية، مما يقلل من التوتر ويحسن من إنتاجيتهم.
في دراسة أجريت على عدة شركات خليجية، تبين أنَّ الشركات التي توفر برامج مرونة في ساعات العمل (مثل أسبوع عمل مضغوط أو ساعات عمل مرنة) شهدت انخفاضاً في معدلات الغياب بنسبة 15% خلال ستة أشهر.
3. تقديم برامج للتعلم والتطوير المستمر
الاستثمار في تطوير مهارات الموظفين ليس فقط استثماراً في مستقبل الشركة، بل هو أيضاً رسالة عاطفية بأنَّهم جزء من خطة طويلة الأمد؛ فعندما يرى الموظفون أنَّ هناك فرصاً للنمو، تزداد دافعيتهم، ويقلّ شعورهم بالركود المهني. ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
- توفير ورش عمل ودورات تدريبية متخصصة.
- إتاحة الوصول إلى منصات تعليمية عن طريق الإنترنت.
- تخصيص ميزانية للتدريب الشخصي.
- توفير فرص للإرشاد والتوجيه مع قادة أكثر خبرة.
"لبناء بيئة عمل داعمة، على القائد أن يكون مستمعاً جيداً. لذا، أنشئ قنوات اتصال مفتوحة، واعمل على توفير ساعات عمل مرنة، وقدم برامج تدريبية تساعد الموظفين على تطوير مهاراتهم؛ إذ لا تقلل هذه الممارسات من الإرهاق الوظيفي فحسب، بل تزيد من شعور الموظفين بالتقدير والالتزام".

دور القائد في كسر وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية في مكان العمل
يُعدّ دور القائد في الصحة النفسية محورياً في تحويل بيئة العمل إلى مساحة آمنة وداعمة. ففي كثير من المجتمعات، لا تزال هناك وصمة عار مرتبطة بالحديث عن المشكلات النفسية، مما يمنع الموظفين من طلب المساعدة.
إليك أبرز الاستراتيجيات التي تمكّن القادة من دعم فرقهم دعماً حقيقياً ومواجهة هذه الوصمة:
1. التحدث بصراحة عن الصحة النفسية
عندما يتحدث القائد بصراحة وشفافية عن أهمية الصحة النفسية للفريق، فإنَّه يبعث برسالة قوية بأنَّ هذا الموضوع ليس من المحرمات.
في مجتمعنا العربي، لا تزال هناك وصمة عار مرتبطة بالحديث عن الصحة النفسية. كقائد، يمكنك أن تكون قدوةً حسنةً، من خلال مشاركة تجاربك الشخصية (إذا كنت مرتاحاً لذلك) أو التحدث علانية عن أهمية طلب المساعدة، مما يشجع الآخرين على فعل الشيء نفسه.
2. توفير بيئة آمنة للتعبير عن المشاعر
لا يكفي الحديث فقط عن الصحة النفسية، بل يجب على القائد بناء بيئة عمل داعمة يشعر فيها الموظف بـ الأمان النفسي التام للتعبير عن مشاعره دون خوف من الحكم أو التداعيات.
يمكن للقائد تحقيق ذلك عن طريق:
- تدريب المديرين على مهارات التعاطف والاستماع الفعّال.
- ضمان سرية المحادثات المتعلقة بالصحة النفسية.
- إقامة ورش عمل توعوية حول علامات الإرهاق والتوتر وكيفية التعامل معها.
3. التعاون مع متخصصين في الصحة النفسية
لتوفير الدعم الحقيقي، يجب على القائد تجاوز الحدود الداخلية للشركة والتعاون مع متخصصين؛ إذ إنَّ تقديم الوصول إلى برامج مساعدة الموظفين (EAPs)، أو توفير جلسات استشارية مع مستشارين نفسيين، يرسخ فكرة أن طلب المساعدة ليس ضعفاً بل هو خطوة إيجابية نحو التعافي.
بالتالي، يجعل هذا النهج المهني الحصول على الدعم أمراً طبيعياً ومقبولاً.
"القائد له دور محوري في كسر وصمة العار. من خلال التحدث بصراحة وشفافية عن أهمية الصحة النفسية، يمكنه أن يخلق ثقافة عمل آمنة. يمكنه أيضاً تشجيع استخدام برامج مساعدة الموظفين (EAPs) والتعاون مع مستشارين نفسيين، مما يجعل طلب المساعدة أمراً طبيعياً ومقبولاً".
ختاماً، يتعدّى الاستثمار في الصحة النفسية للفريق مجرد كونه تكلفة؛ إذ إنّه استثمار استراتيجي يضمن استمرارية النجاح في الأمد الطويل. كما ويجني القادة الذين يعطون الأولوية لرفاهية موظفيهم ثماراً عظيمة تتمثل في زيادة الإنتاجية، وتقليل الإرهاق، والاحتفاظ بالمواهب، وبناء ثقافة عمل قائمة على الثقة والتعاطف.
ما هي أهم استراتيجية طبقتها كقائد لدعم الصحة النفسية لفريقك؟ شاركنا رأيك في التعليقات، ولا تتردد في مشاركة هذا المقال مع من قد يستفيد منه.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
1. ما هي علامات الإرهاق الوظيفي التي يجب على القائد الانتباه إليها؟
تشمل علامات الإرهاق الوظيفي (Burnout) فقدان الطاقة، والشعور المستمر بالتوتر، وانخفاض الأداء، الغياب المتكرر، والانسحاب الاجتماعي.
2. هل يُعد دعم الصحة النفسية مكلفاً للشركات الصغيرة؟
ليس بالضرورة؛ إذ يمكن للشركات الصغيرة البدء بمبادرات بسيطة وغير مكلفة، مثل توفير ساعات عمل مرنة، أو تشجيع الاستراحات، أو تقديم موارد تعليمية مجانية على الإنترنت، أو عقد جلسات توعية جماعية.
3. كيف يمكن للقائد أن يقدم الدعم النفسي دون أن يكون معالجاً؟
لا يجب أن يكون القائد معالجاً؛ إذ يقتضي دوره تقديم الدعم والتعاطف، والاستماع باهتمام، ثم توجيه الموظف إلى الموارد المناسبة سواء كانت برامج دعم الموظفين أو متخصصين في الصحة النفسية.
هذا المقال من إعداد المدرب علاء منلا أحمد، كوتش معتمد من ولفا أكاديمي