English

ضبط العواطف من أجل القيادة الفعالة

هل لاحظتَ يوماً رزانة بعض الأشخاص في مكان العمل؟ إنَّهم أولئك الهادئون وسط الفوضى اليومية؛ إنَّهم يخوضون محادثات صعبة ويجرون اجتماعات متوترة بكل سهولة وأريحية، وهذا هو الذكاء العاطفي (EI) في أفضل حالاته.

ابتكر الذكاء العاطفي الباحثان "بيتر سالوفي" (Peter Salovey) و"جون دي ماير" (John D. Mayer) في التسعينيات، واشتهر على يد عالم النفس "دانييل جولمان" (Daniel Goleman)، وهو يدور حول تحقيق الانسجام بين عواطفك وعواطف الآخرين، فوجد "جولمان" أنَّ الذكاء العاطفي هو السر وراء 90% من حسن الأداء.

إليك خطوتان لضبط العواطف من أجل القيادة الفعالة:

1. معرفة ذاتك العاطفية:

كيف تتخطى حدود الذكاء العاطفي لتصل إلى مستوى ضبط العواطف؟ يبدأ الأمر برحلة استكشاف ذاتية عميقة، فهل سبق أن وجدت نفسك تتساءل عن سبب انزعاجك الشديد، لتكتشف لاحقاً أنَّك كنت تضغط على أسنانك بلا وعي؟ هذا يعني أنَّك لم تكن منتبهاً لإشارات جسدك العاطفية، والخطوة الأولى هي فهم مشاعرك بعمق، وهو أمر قد يبدو بسيطاً ولكنَّه في الواقع معقد.

غالباً ما يشعر عملائي بالدهشة عندما أسألهم عن كيفية إدراكهم للإحباط، فهم يظنون أنَّ الأمر واضح ويكفي أنَّني سمعت قصتهم لأعرف سبب إحباطهم، لكنَّني لا أبحث عن تفاصيل القصة بقدر ما أبحث عن تأثير هذا الإحباط في الجسم، فهل شعرت بالتوتر، أو الغضب، أو الانزعاج؟ تكمن الإجابة في استجابتك الجسدية.

عندما نواجه مشاعر سلبية مثل التوتر أو القلق أو الخوف أو الحزن، يمر جسدنا بتغيرات فيزيولوجية استعداداً لاستجابة الكر أو الفر، فيتسارع نبض القلب، ويزداد معدل التنفس، وتتشنج العضلات، وربما تزيد نسبة التعرق، وغالباً ما نكون منشغلين بما يدور حولنا أو بأفكارنا الداخلية لدرجة أنَّنا نتجاهل إشارات أجسادنا، فالانتباه إلى هذه الإشارات الجسدية ليس مجرد ذكاء عاطفي، بل هو بداية رحلتك نحو ضبط العواطف.

  • الانتباه إلى الجوع: مسار فريد للوعي

توجد طريقة أخرى أشاركها مع العملاء للتواصل مع عواطفهم وهي ملاحظة إحساس جسدي آخر: الجوع، لقد أصبح معظمنا يتبع الروتين حتى في الأكل، إذ إنَّنا نأكل فقط لأنَّ وقت الطعام قد حان، وليس لأنَّنا نشعر بالجوع، وعندما نشعر بالجوع فعلاً، فإنَّ رد فعلنا الفوري هو إسكاته في أسرع وقت ممكن، ولكن ماذا لو تمهلنا وراقبنا الإشارات التي يرسلها لنا جسدنا؟

أدعوك لإعادة النظر في نظرتك للجوع، إنَّه ليس مجرد إشارة لتناول الطعام، بل نافذة على احتياجات الجسم وردود أفعاله، فابدأ بملاحظة تذبذب شعورك بالجوع؛ كيف يبدو الشعور بالجوع الحقيقي؟ هل يمكنك التفريق بين الجوع والعطش من خلال شرب الماء وملاحظة التغيير؟

لا يتعلق هذا التمرين بتقييد الطعام، وإنَّما باستخدام الجوع لزيادة الوعي بالجسم، فمن خلال ضبط هذه الإشارات، فإنَّك تتعلم درساً قيماً: كما أنَّ الجوع شعور مؤقت يزول، فإنَّ العواطف أيضاً حالات عابرة تتغير باستمرار ولا تحدد هويتك.

  • الشعور بالعواطف لتحريرها: قاعدة الـ 90 ثانية للتحكم في عواطفك

إذاً، تتمثل الخطوة الأولى في الانتباه إلى الأحاسيس الجسدية التي تسببها عواطفك، ولا أحد يستمتع بالشعور بالعواطف السلبية، خاصةً في خضم اجتماع هام، فربما لا تستمتع أيضاً بالشعور بالجوع، لكنَّني أعدك، إذا بدأت في الانتباه للأحاسيس الجسدية، فإنَّها ستفقد سيطرتها عليك.

لحسن الحظ يمكنك البدء بخطوات صغيرة، مثل الانتباه إلى الجوع أو الانزعاجات الصغيرة التي تواجهها طوال اليوم، وبفضل بحث الدكتورة "جيل بولت تايلور" (Jill Bolte Taylor)، نعلم أنَّ للعواطف عمراً كيميائياً مدته تسعون ثانية؛ وهذا يعني أنَّ رحلتك من الذكاء العاطفي إلى ضبط العواطف لن تستغرق وقتاً طويلاً، (ما لم تستمر بالطبع في التفكير بأفكار تبقيك متعثراً في تلك العواطف) وهنا تأتي الخطوة الثانية.

2. فهم الرابط بين الأفكار والعواطف:

الخطوة الثانية هي أن تصبح واعياً بأفكارك وكلماتك، لماذا؟ لأنَّ عواطفك لا يصنعها الشخص الذي أمامك، فمصدر عواطفك هو أفكارك التي تراودك عن هذا الشخص: "هل يخدعني؟ قلت له إنَّ هذه الأرقام خاطئة. هذه مضيعة للوقت، هو يفعل هذا دائماً"، عندها يبدأ ضغط دمك في الارتفاع، فإنَّ فهم هذا الارتباط أمر هام جداً لضبط العواطف، ومن السهل أن نشير إلى خارج أنفسنا ونلوم العالم والناس والأحداث على بؤسنا، فعندما تضبط عواطفك، لن يكون هذا هو الحال، لأنَّك ستدرك أنَّك المسؤول الوحيد عن عواطفك.

  • فهم وإدارة العواطف الزائفة

عندما تبدأ في مراقبة حوارك الداخلي والخارجي، أريدك أن تكون على دراية بهذا الشيء الصغير المعقد الذي يسمى "العواطف الزائفة"، فالخطوة المحورية نحو تعميق ذكائك العاطفي هي التعرف إلى هذه المراوغات الصغيرة وإدارتها، فالعواطف الزائفة هي في الواقع أحكام متنكرة في صورة عواطف حقيقية.

تبدأ العواطف الزائفة عموماً بـ "أشعر..." ثم تتبعها عبارة تبدو كأنَّها عاطفة، ولكنَّها في الواقع حكم على شخص آخر، على سبيل المثال، في ذلك الاجتماع مع الرجل الذي يذكر أرقاماً خاطئة بعد أن أخبرته بالأرقام الصحيحة، قد تقول: "أشعر بالإهانة"، وقد يتفق الناس معك.

من السهل أن ترى ذلك نظراً لأنَّك تستمر في إعطائه الأرقام الصحيحة، وهو يتجاهلها، ويمكنك أيضاً أن تقول إنَّه غير محترم أو غير موثوق به أو فاشل، ولكن إذا نظرت من كثب، ستجد أنَّ كل هذه الكلمات فيها شيء مشترك، إنَّها لا تمثلك، إنَّها تتعلق بشخص آخر.

لن تقول أياً من هذه الأشياء دون وجود شخص يتجاهلك ولا يحترمك ويستخف بك، ففي الأساس، أنت تصدر حكماً على شخص آخر، وهذا جيد، لكن الجزء الذي يربكنا هو عندما نعتقد خطأ أنَّ هذا الحكم هو أحد عواطفنا الخاصة.

  • تحليل طبقات العواطف الزائفة

إذاً، ما الذي يحدُث هنا؟ عندما نقول إنَّنا نشعر "بالتجاهل"، إذا كان الأمر يتعلق بشخص آخر، فما هي حقيقة عواطفنا؟ وهنا يأتي دور ضبط العواطف، فهو يتطلب منك التعمق أكثر من مجرد إلقاء اللوم، فيتطلب منك أن تنظر إلى نفسك وتسأل عما تشعر به حقاً.

قد تكتشف أنَّك غاضب أو مجروح أو محرج؛ لذا، إذا شعرت يوماً بأنَّه تم التخلي عنك أو الحكم عليك أو التقليل من شأنك، فأنت تعلم أنَّ هذه العواطف تؤثر بك بشدة، ولكن هنا تكمن المشكلة: في بعض الأحيان، ما نعتقد أنَّه عواطف هو في الحقيقة أفكارنا المقنَّعة، إنَّها متسترة وتوهمنا بأنَّها عواطفنا.

الحقيقة هي أنَّ كلمات مثل "لقد تخلى عني" ليست عاطفة، بل هي قصص نرويها لأنفسنا عما يحدث حولنا؛ لذا فكر في الأمر بهذه الطريقة: عندما نقول إنَّنا نشعر بالتخلي عنا، فإنَّ ما نقوله حقاً هو أنَّنا نعتقد أنَّ شخصاً ما قد تركنا وراءه، لكن العواطف الحقيقية الكامنة قد تكون الألم أو الخوف أو الوحدة، فهذه عواطف حقيقية، وهي هامة لأنَّها شيء يمكننا التعامل معه.

إنَّ إدراك هذه العواطف الزائفة على حقيقتها يمكن أن يغير الطريقة التي ندير بها علاقاتنا مع الآخرين، فبدلاً من رد الفعل "إنَّهم يتعمدون تجاهلي"، نستجيب للعاطفة الحقيقية "أشعر بالوحدة الآن"؛ إنَّه تغيير بسيط ولكنَّه يؤثر بشكل كبير.

التعامل مع الغموض العاطفي:

ليس من السهل سماع هذه العواطف الزائفة، ولكن بمجرد أن تدركها، ستراها في كل مكان حولك، سوف تسمعها في الأخبار، وسوف تراها على وسائل التواصل الاجتماعي، وسوف تسمع أطفالك وزملاءك يستخدمونها، وعندما تسمع نفسك تقولها، ستبدأ في ملاحظة ذلك أيضاً.

ماذا بعد أن تتعرف إلى هذه الأفكار التي تتنكر في هيئة عواطف؟ لديك الآن الفرصة للسيطرة على عواطفك بذكاء، فإليك عملية سريعة من ثلاث خطوات لمساعدتك على التعامل معها:

  • تحديد الحكم: عندما تجد نفسك تشعر "بالهجوم" أو "الخيانة"، توقف للحظة، واكتشف ما إذا كنت تستخدم كلمة عاطفية للتعبير عن حكمك، فاسأل نفسك: "ما هو الحكم الكامن وراء هذا الفكر؟".
  • فهم العاطفة الحقيقية: والآن حان الوقت للتوقف والتعمق تحت السطح، فتشجِّع هذه الخطوة على التحول من حالة رد الفعل إلى حالة التأمل، فاكتشف ما يحدث تحت السطح، ويمكنك العودة إلى الخطوة الأولى والنظر عقلياً داخل جسمك لبدء هذه العملية، واسأل نفسك: "ما هي العاطفة التي أشعر بها الآن؟".
  • العثور على الحاجة الكامنة وراء العاطفة: تأتي كل عاطفة مع حاجة كامنة، فإذا كنت تشعر بالوحدة، فربما تحتاج إلى التواصل، وإذا كنت خائفاً، فربما تحتاج إلى الطمأنينة، ويؤدي تحديد هذه الحاجات والتعبير عنها إلى تحويل الصراع المحتمل إلى لحظة تعاون، فاسأل نفسك: "ما الذي أحتاج إليه الآن؟".

يعد تحديد العواطف والحاجات الحقيقية وراء العواطف الزائفة خطوة قوية نحو ضبط العواطف، فتشجعنا هذه العملية على تحويل وجهة نظرنا من إلقاء اللوم على العوامل الخارجية إلى فهم عواطفنا والتعامل معها.

التأثير الحقيقي لضبط العواطف بالأرقام:

الآن، دعونا نتوقف لحظة لنتحدث عن تأثير ضبط العواطف، فربما تقول: "بالتأكيد، يبدو كل هذا رائعاً من الناحية النظرية، ولكن هل يفيدنا على أرض الواقع؟" الجواب هو نعم، ولدينا الأرقام التي تثبت ذلك.

سلَّطت دراسة أجرتها مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" (Harvard Business Review) الضوء على شيء مثير للاهتمام: شهدت المنظمات التي يقودها أفراد يتمتعون بذكاء عاطفي عالٍ ولديهم القدرة على إدارة عواطفهم والتحكم في عواطف الآخرين واستثمارها بكفاءة زيادةً مذهلةً بنسبة 34% في الأرباح، لماذا؟ لأنَّ ضبط العواطف يعزز بيئة يزدهر فيها التواصل والاندماج، وتصبح فيها الاستقالة الصامتة شيئاً من الماضي.

لكن الأمر لا يتعلق بالأرباح فقط، لقد أنشأ هؤلاء القادة الأذكياء عاطفياً فرقاً أظهرت مستوى أعلى من الرضى، وشعرت بتقدير أكبر، وكانت أكثر إنتاجية بشكل ملحوظ، وذلك لأنَّ أعضاء الفريق يشعرون بأنَّك تهتم بهم وتحترمهم وتقدِّر آراءهم، فيتحمسون لتقديم أفضل ما لديهم.

في الختام:

لقد حان الوقت لتحويل لحظات التوتر هذه إلى أعظم فرصك للنمو والتواصل، فعندما تتبنَّى هذا الجانب المتقدم من ضبط العواطف، تذكَّر أنَّ القدرة على إدارة عواطفك تكمن بداخلك، وتأتي هذه القدرة من تمييز العواطف والحاجات الحقيقية الكامنة وراء عواطفك الزائفة.

اعلم أنَّ الذكاء العاطفي هو مجرد البداية؛ ويأتي ضبط العواطف الحقيقي من الداخل، وهذا يمكِّنك من التعامل مع المواقف العاطفية بثقة ووضوح.

آخر المقالات

كن على اطلاع بأحدث الأخبار

اشترك الآن لتحصل على أحدث المقالات والأبحاث والمنتجات التي تجعلك أقوى من أي وقت مضى