English

اقتصاد العمل المستقل وتغيّر ديناميكيات بيئة العمل

في عصرنا الراهن، يشهد مفهوم مكان العمل تحولاً جذرياً. قبل بضع سنوات فقط، كان مكان العمل مبنى إداري مليء بالمكاتب وأجهزة الحاسوب، وكان المديرون يمتلكون مكاتبهم الخاصة، وتُوضَع الخطط داخل غرف الاجتماعات باستخدام العروض التقديمية.

بيد أنَّ هذه الصورة التقليدية آخذة في التلاشي تدريجياً، لتحل مكانها رؤية أكثر مرونةً وتفاعليةً لمكان العمل؛ إذ بات الموظفون يتواصلون مع فِرَقهم عن بُعد، ويقود المديرون فِرَقهم من منازلهم، فقد غيَّرت التكنولوجيا ديناميكيات العمل وكيفية تنفيذ المهام في المؤسسات.

أتاحه هذا التحول فرص واعدة، لكنَّ عديداً من الشركات لا تزال تواجه صعوبةً في مواكبة هذا التغيُّر.

مع تغيُّر ظروف العمل، تُطالَب المؤسسات بمواكبة توجهات جديدة، ومن أبرزها ظهور اقتصاد العمل المستقل (gig economy)، وخاصةً بعد زيادة شعبية العمل الحر والتوظيف القائم على المشاريع.

وعلى الرغم من أنَّ هذه التحولات تقدم فرصاً جديدةً، فإنَّها تطرح كذلك تحديات كبيرة أمام الشركات التي تحاول مواكبة وتيرة الابتكار المتسارعة.

يبحث المقال في ملامح مستقبل العمل، مع التركيز على بروز اقتصاد العمل المستقل، والتوجهات الجديدة التي ينبغي على المديرين فهمها للحفاظ على الميزة التنافسية.

لماذا يجب أن يفهم المديرون ظروف العمل المتغيرة؟

يمتلك المديرون دافعاً واضحاً لفهم التغيرات التي يشهدها عالم العمل، فالإلمام بكيفية تغير بيئة العمل يُمكِّن المدير من وضع استراتيجيات فعالة، وتحقيق الأهداف التنظيمية. في ما يلي، بعض الأسباب التي تبرز ضرورة فهم ظروف بيئة العمل المتغيرة:

1. المرونة والقدرة على التكيف

يجب أن تتطور المؤسسات باستمرار وتواكب التغيرات لتحافظ على مكانتها في السوق. يجب أن يستفيد المدير من التطورات التكنولوجية في تحقيق أهداف الشركة، والفِرَق، والموظفين.

على سبيل المثال: حين فرضت جائحة "كوفيد-19" (19-COVID) اعتماد العمل عن بُعد، نجحت الشركات التي سارعت إلى استخدام أدوات التعاون الافتراضي مثل: "زووم" (Zoom) و"سلاك" (Slack) في مواصلة عملياتها بسلاسة، بينما واجهت شركات أخرى انقطاعات كبيرة في سير العمل.

تتأقلم المؤسسة مع التغيرات التي تفرضها مثل هذه الأزمات عندما يعي المدير أهمية المرونة التنظيمية. ومن النماذج البارزة في هذا السياق، شركة "نتفلكس" (Netflix)، التي تُحدِّث بنيتها التقنية باستمرار لتقديم المحتوى بسرعة وكفاءة أكبر، مما يعزز موقعها الريادي في مجال الترفيه.

2. إدارة المواهب بفعالية

لقد غيَّر اقتصاد العمل المستقل والعمل عن بُعد أساليب استقطاب الكفاءات، فعلى سبيل المثال: وضعت شركة "إير بي إن بي" (Airbnb) نموذج عمل يعتمد أساساً على موظفين مستقلين وعاملين عن بُعد استجابةً لمجموعة من التغيرات الجذرية التي واجهتها، مما أتاح لها الوصول إلى قاعدة مواهب عالمية دون التقيد بالموقع الجغرافي.

يحسِّن المديرون الذين يفمهون هذا التغيير استراتيجيات التوظيف والاحتفاظ بالكفاءات من خلال: توفير المرونة، وتوفير عروض تنافسية للمستقلين، وتقديم فرص عمل عن بُعد.

3. تحسين العمليات التنظيمية

تتيح مواكبة التطورات للمديرين الفرصة لتبسيط العمليات وتحسين كفاءة العمل. يشمل ذلك: إعادة هيكلة سير العمل بما يتناسب مع الموظفين المستقلين، أو تعديل السياسات الداخلية لتشمل ترتيبات العمل عن بُعد. تساعد مواكبة ديناميكيات العمل المتغيرة في اتخاذ قرارات استباقية ومدروسة.

4. تعزيز اندماج الموظفين

يُعد اندماج الموظفين عاملاً محورياً في تعزيز الإنتاجية وتقليل معدلات دوران العمالة؛ إذ تتبنَّى شركات مثل: "غوغل" (Google) هذا التوجه منذ سنوات لإنشاء تجارب إيجابية للموظفين، وذلك من خلال تقديم برامج العافية المهنية، وتوفير خيار ساعات العمل المرنة، وتصميم بيئات عمل مبتكرة.

يساعد فهم التوجه نحو السلامة المهنية المديرين في بناء بيئة عمل داعمة ومحفِّزة، تُسهم في رفع معنويات الموظفين وتعزيز التزامهم.

5. اتخاذ قرارات استراتيجية

يحتاج المديرون إلى رؤية مستقبلية لاتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد تتوافق مع التوجهات الناشئة.

ولعل من أبرز الأمثلة عن ذلك، قرار رجل الأعمال "إيلون ماسك" (Elon Musk) بالاستثمار بكثافة في تكنولوجيا السيارات الكهربائية قبل سنوات، بناءً على التوجه نحو الطاقة المستدامة، وهو ما جعل شركته "تيسلا" (Tesla) تتصدر الصناعة اليوم.

وبالمثل، فإنَّ فهم المديرين لتوجهات مستقبل العمل مثل: الأتمتة والذكاء الاصطناعي، يُوجِّه مؤسساتهم نحو قرارات أكثر فعاليةً تعزز ميزتها التنافسية.

فهم ظروف بيئة العمل المتغيرة

اقتصاد العمل المستقل (Gig Economy)

يشير مفهوم "اقتصاد العمل المستقل" إلى الشعبية المتزايدة للمنصات الرقمية والشركات التي تعمل بمرونة وتعتمد على التبادل السريع للخدمات والموارد من خلال التكنولوجيا الرقمية. يعتمد هذا الاقتصاد على المتعاقدين والعاملين المستقلين، الذين يعملون حسب جداولهم الخاصة، وغالباً ما يكون عدد الموظفين الدائمين في هذه الشركات محدوداً.

تربط هذه المنصات مقدِّمي الخدمات بالمستهلكين مباشرة، كما هو الحال مع شركات مثل: "إير بي إن بي" (Airbnb)، و"دور داش" (DoorDash)، و"أب وورك" (Upwork)، و"أوبر" (Uber).

يغطي اقتصاد العمل المستقل عديد من مجالات العمل مثل: الضيافة، والنقل، وخدمات التوصيل وغيرها، ويتمتع العاملون في هذا القطاع بحرية اختيار أوقات عملهم وعدد المهام التي يريدون إنجازها.

وفقاً لتقارير أبحاث الأعمال، بلغت قيمة سوق اقتصاد العمل المستقل عالمياً 355 مليار دولار أمريكي في عام 2021، ومن المتوقع أن تصل إلى 1,864.16 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2031، بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) يُقدَّر بـ %16.18.

العوامل المحرِّكة لاقتصاد العمل المستقل

في ما يلي، أهم الأسباب التي تدفع عديداً من الأشخاص إلى ترك وظائفهم التقليدية والاتجاه نحو اقتصاد العمل المستقل؛ إذ تساعد هذه الأسباب المديرين أيضاً في فهم التحديات في المؤسسات التقليدية والمعاصرة:

1. التقدم التكنولوجي

أدى توفُّر الهواتف الذكية وسهولة الوصول إلى الإنترنت إلى فتح آفاق جديدة للعمل عن بُعد، والانضمام إلى منصات العمل بسهولة، فبنقرات قليلة على الهاتف، يستطيع أي فرد التسجيل في منصة وتقديم خدماته أو طلب خدمة وهو في منزله.

2. تغيُّر الموقف تجاه العمل والحياة

شهدت السنوات الأخيرة تحولاً كبيراً في نظرة الناس إلى التوازن بين الحياة المهنية والشخصية؛ إذ يرغب عديد من الموظفين اليوم بمرونة أكبر، ويرون أنَّ ساعات العمل التقليدية (8 ساعات) لا تناسب نمط حياتهم أو التزاماتهم الشخصية.

وحين لا توفر المؤسسات هذه المرونة، يتجه الأفراد إلى العمل الحر الذي يمكِّنهم من التحكم بوقتهم دون التضحية بجودة حياتهم الشخصية.

3. مصادر الدخل البديلة

في ظل الركود الوظيفي وقلة فرص الترقية وزيادة حالات التسريح الجماعي، بدأ كثير من الناس يبحثون عن دخل إضافي أو بديل؛ إذ لا يرون اقتصاد العمل المستقل بديلاً دائماً فقط، بل وسيلة لسد فجوة الدخل وتطوير مهاراتهم.

4. الرغبة في الاستقلالية

يريد العاملون اليوم مزيداً من القدرة على التحكم في طريقة عملهم، وجدولة مهامهم، وتحديد أجورهم بأنفسهم، وهذا تحديداً ما يقدمه اقتصاد العمل المستقل، والذي يتيح للفرد اختيار نوع الخدمات التي يقدمها، وتوقيت العمل، وطريقة تسعير الخدمات.

تأثير اقتصاد العمل المستقل في سلوك المنظمات

تشهد بيئة العمل اليوم تغيرات جذرية بفعل نمو اقتصاد العمل المستقل، وهو ما يترك تأثيرات واضحة في سلوك المنظمات. ومع تزايد اعتماد الشركات على المتعاقدين المستقلين، يصبح فهم هذه التغيرات أمراً هاماً لتحسين الأداء التنظيمي وضمان التكيف مع الواقع الجديد.

1. تزايد عدد المتعاقدين المستقلين

ما يحفز العاملين في اقتصاد العمل المستقل هو طبيعة العمل أكثر من ولائهم للجهة التي يتعاملون معها، فمثلاً: يعمل السائقون في شركتَي "أوبر" (Uber) و"ليفت" (Lyft) عن طريق منصات الشركات، لكن دون عقد توظيف رسمي، فهم يختارون ساعات عملهم، ويستطيعون العمل مع ما يزيد على جهة واحدة في الوقت نفسه.

يصعب بناء الولاء أو فرض الرقابة على هؤلاء مقارنة بالموظفين الدائمين، لكن تمنح هذه المرونة الشركات قدرة على توسيع القوى العاملة بسرعة دون الالتزام طويل الأمد بالتوظيف التقليدي.

2. تغيُّر تفاعلات الفِرَق

يتيح اقتصاد العمل المستقل تشكيل فِرَق عمل مرنة ومؤقتة حسب المشروع؛ إذ تسهِّل منصات مثل: "أب وورك" (Upwork) و"فايفر" (Fiverr) توظيف متخصصين في مهام محددة، بينما تتيح منصات مثل: "توبتال" (Toptal) بناء فِرَق قابلة للتبديل حسب الحاجة، مما يؤدي إلى تعزيز التكيف مع متطلبات السوق، ولكن في المقابل تراجع تماسك الفريق؛ لأنَّ الأعضاء قد لا يعملون معاً لفترات طويلة.

3. تحديات تنظيمية وقانونية

تطرح إدارة المتعاقدين المستقلين إشكالات قانونية، خصوصاً في تصنيف العاملين وتأمين بيانات العملاء. على سبيل المثال: واجهت شركة "أمازون" (Amazon) دعاوى قضائية تتعلق بتصنيف سائقي التوصيل ضمن شبكة الشركة بصفة "متعاقدين" بدلاً من"موظفين"، مما أثار جدلاً حول حقوق العاملين.

أما شركات مثل: "ديليفيرو" (Deliveroo)، فوضعت عقوداً مفصَّلة تتضمن: حماية بيانات الزبائن، مع احترام الوضع المستقل للعاملين.

4. إعادة تصميم الوظائف والثقافة التنظيمية

يُعيد اقتصاد العمل المستقل تشكيل طبيعة العمل والثقافة التنظيمية. تُجسِّد شركة "وي وورك" (WeWork) – المزود لمساحات العمل المشتركة – هذا التحول بوضوح، فقد صُمِّم نموذجها لدعم المستقلين، والشركات الناشئة، والعاملين فردياً، من خلال توفير بيئة عمل تعزز المرونة والاستقلالية.

تسهم هذه المساحات في إرساء ثقافة أكثر مرونةً، وفيها يتنقَّل الموظفون أو العاملون بنظام المهام حسب متطلبات المشاريع، وهو ما يُناقض الثقافة الجماعية والدائمة المرتبطة غالباً بالتوظيف التقليدي.

كما تستعين شركة "غوغل" أيضاً بالعاملين المستقلين في مشاريع متخصصة، مما يدفع مديريها إلى إعادة التفكير في أساليب توزيع الأدوار والتعاون، بما يتوافق مع طبيعة المشاريع المرنة وقصيرة الأمد.

تأثير اقتصاد العمل المستقل في سلوك المنظمات

هل اقتصاد العمل المستقل نعمة أم نقمة؟

على الرغم مما يوفره من فرص مرنة لزيادة الدخل والعمل، إلا أنَّ هناك مخاوف جدية حول غياب الأمان الوظيفي، وعدم وجود مزايا وظيفية واضحة، وضعف حماية حقوق العاملين المستقلين.

في الختام

يُحدث اقتصاد العمل المستقل تحولاً كبيراً في بيئة وسلوك المنظمات، ويوفر فرصاً وتحديات في آن، ومع الاعتماد المتزايد للشركات على المتعاقدين المستقلين والمستقلين العاملين بنظام المشاريع، بات من الضروري على المديرين التكيف مع قوة عاملة أكثر مرونةً وتوجهاً نحو المشاريع قصيرة الأمد.

يُعد تبنِّي التكنولوجيا ومواكبة تغيُّر أولويات التوازن بين الحياة الشخصية والعمل أمرين حاسمين لاستقطاب أفضل المواهب والاحتفاظ بها في ظل هذه التغيرات.

ومع ذلك، فإنَّ ظهور هذا النموذج يُثير تحديات تنظيمية، لا سيما في ما يتعلق بأمن البيانات وحقوق العاملين. ولكي تحافظ المؤسسات على ميزتها التنافسية، ينبغي عليها إعادة تصميم بنيتها وثقافتها التنظيمية لتتلاءم مع هذه التحولات، مع تعزيز المرونة وضمان الاستدامة طويلة الأمد ورضا العاملين.

هذا المقال من إعداد المدرب د. محمد بدرة، كوتش معتمد من وولفا

آخر المقالات

كن على اطلاع بأحدث الأخبار

اشترك الآن لتحصل على أحدث المقالات والأبحاث والمنتجات التي تجعلك أقوى من أي وقت مضى