ربما تفترض أنَّ الأقسام المسؤولة عن تقديم الدعم في مواجهة أزمة غلاء المعيشة داخل المؤسسات، هي تلك المعنية بالموارد البشرية، وشؤون الرواتب، والمالية؛ إذ تتمحور النقاشات المتداولة عادةً حول المساعدات المالية المؤقتة، ووسائل الدعم، مثل المزايا الوظيفية، أو برامج المساندة النفسية والمهنية للموظفين (Employee Assistance Programmes)، ويبدو أنَّ وتيرة هذه النقاشات تتصاعد تصاعداً ملحوظاً في الفترة الأخيرة.
وفي مجموعات الموارد البشرية على منصة "لينكدإن" (LinkedIn)، يُبدي عديدٌ من قادة هذا المجال اهتماماً متزايداً بما تفعله الشركات الأخرى لمواجهة هذه الأزمة، التي بدأت تحتل مكانةً متقدمةً ضمن أولويات العمل المؤسسي. هم في بحث دائم عن حل سحري ضمن مجموعة الحلول القابلة للتطبيق والتعميم، والتي يمكن أن توفر دعماً حقيقياً للموظفين، وتسهم في تحسين "عرض القيمة الوظيفية" الذي تقدمه المؤسسة لموظفيها (Employee Value Proposition).
غير أنَّ كثيراً من المختصين لا يربطون مباشرةً بين هذا النوع من الدعم والدور الحيوي الذي يمكن أن تؤديه إدارة التعلم والتطوير (L&D) في هذا السياق.
مع ذلك، علينا أن ندرك أنَّ مثل هذه المبادرات، وإن كانت محمودة، إلا أنَّها غالباً ما تكون قصيرة الأجل أو تُنفَّذ لمرة واحدة فقط، وبالتالي فإنَّ أثرها محدود ولا يلبي الحاجة إلى حلول طويلة الأمد، وهي الحاجة الحقيقية التي يبحث عنها الموظفون اليوم. لا شك أنَّ أي حافز مالي إضافي سيكون محل ترحيب، لكن السؤال الجوهري هو: هل يمثل ذلك حلاً مستداماً بالفعل؟
فجر جديد لإدارة التعلم والتطوير
قد يبدو غريباً في البداية الربط بين دعم الموظفين في أزماتهم المعيشية، والدور المتوقع من إدارة التعلم والتطوير. ولكن لنعد قليلاً إلى الوراء ونتأمل التحديات القديمة التي واجهت هذه الإدارة: قلة الوعي التجاري، وصعوبة إثبات الأثر الحقيقي للتعلم على النتائج المؤسسية. واليوم، تُطلّ علينا فرصة جديدة – لا مجرد مهنية، بل إنسانية – لإحداث تغيير عميق.
ويكمن جوهر هذه الفرصة في أمرين اثنين: أولاً، تبني تغيير جذري في طريقة التفكير. وثانياً، اعتماد نهج ذهني مرن وسريع الاستجابة يُعرف باسم "التفكير الرشيق" (Agile Thinking). المقصود هنا تحديداً المسؤولون عن إدارة التعلم والتطوير أنفسهم، الذين حان الوقت لهم لإعادة النظر في برامجهم التقليدية وخططهم المسبقة، والانطلاق نحو نماذج أكثر توافقاً مع الواقع المتغيّر.
نحن لم نعد نعيش في عالم يسير نحو الاستقرار، بل أصبح التغيير هو الثابت الوحيد في المعادلة
قد يبدو هذا التوجه جديداً وغير مألوف، لا سيما لمن اعتاد بناء المحتوى التدريبي وفقاً لكفاءات مؤسسية أو إجراءات تنظيمية محددة. لذا، من المفيد أن تطرح على نفسك وفريقك الأسئلة التالية لتكونوا في الموقع الذهني الصحيح لمقاربة التحديات:
- ما مستوى تفاعل الموظفين حالياً؟ وما انعكاس هذا التفاعل على فعالية البرامج التدريبية الحالية أو الاعتيادية؟
- هل لا تزال استراتيجيات وخطط التعلم لديك مناسبة لتلبية احتياجات الموظفين اليوم؟ أم أن الوقت قد حان لاستخدام نهج أكثر مرونة واستجابة؟
- ما الذي يتعيّن تغييره بناءً على ما شهده العالم في العامين الفائتين؟
- ما أكثر الفئات تأثراً بأزمة غلاء المعيشة داخل مؤسستك؟ ولماذا؟
- هل يملك المديرون في مؤسستك المهارات الكافية لممارسة التعاطف ودعم فِرَقهم؟ وهل هم قادرون على تطبيق خطوات فعالة لتمكين فِرَقهم ومساندتهم في هذه الظروف؟
يمكن مناقشة هذه الأسئلة داخل فِرَق العمل أو التفكير فيها فردياً. ومن المفيد كذلك تخصيص وقت للحديث مع "نموذج المتعلم" في مؤسستك، أي ذلك الموظف الذي يمثل شريحة واسعة من جمهور التدريب لديك، أو حتى مع أصحاب المصلحة المعنيين بعمليات التعلم.
وبعد بلورة الإجابات، يأتي دور التعاون مع الإدارات الأخرى في المؤسسة، لتقديم أدوات دعم موحدة ومتكاملة، مثل إدارة الموارد البشرية، والمالية، وشؤون الرواتب، والتواصل الداخلي، والإدارة العليا.

ضرورة الاستجابة لأزمة غلاء المعيشة
ما إن تبدأ بالتفكير الجاد في الأمر، ستكتشف أنَّ لدى إدارة التعلم والتطوير طاقات عظيمة يمكن تسخيرها لدعم الموظفين. فنحن في نهاية المطاف نتعامل مع بشر، وليس مجرد موارد داخل منظومة العمل. وكل ما نحتاج إليه هو إعادة توجيه عدسة التفكير، لنفهم ما الذي يمكن أن يصنع فارقاً حقيقياً في هذا الظرف القاسي.
في ما يلي، مجموعة من الأمثلة التي قد ترغب في أخذها بالحسبان. صحيح أنَّها لا تمثل حلاً سحرياً شاملاً، لكنَّها خطوات عملية ملموسة يمكنك تنفيذها لدعم الأفراد والفِرَق، في خضم أزمة غلاء المعيشة:
1. فهم العقلية السائدة حالياً
من الطبيعي أن يشعر الموظفون، في ظل تصاعد الأزمات العالمية وارتفاع الأسعار وأسعار الفائدة والفواتير، بشيء من التشاؤم أو حتى الإحباط. من الهام أن تضع في حسبانك الحالة النفسية التي يمر بها كثيرون اليوم، وأن تسأل نفسك: كيف يمكننا مساعدتهم على التكيّف مع ظروفهم دون تجاهل واقعهم؟
ابدأ بتنظيم جلسات كوتشينغ قصيرة ومركّزة على تعزيز "عقلية النمو" (Growth Mindset) – وهي تلك النظرة التي تؤمن بأنَّ القدرات قابلة للتطوير مهما كانت التحديات. امنح موظفيك الأدوات الذهنية التي تعينهم على التركيز على ما يمكنهم تغييره، بدلاً من الاستسلام لما لا يملكون سلطة عليه.
2. تشجيع التفكير الموجّه نحو الحلول
نظِّم ورش عمل تفاعلية لحل المشكلات أو جلسات تعلّم من خلال العمل، فمثل هذه الأنشطة لا تمنح الموظفين مهارات حياتية فحسب، بل تساعدهم أيضاً في التعامل مع أزماتهم بفعالية.
غالباً ما يصاب الأفراد بحالة من "الشلل الذهني" في الأوقات العصيبة، فلا يعودون قادرين على رؤية الخيارات المتاحة. وتكمن القيمة هنا في تقديم منهجية بسيطة ومنظمة تساعدهم على التفكير بواقعية ومنطق.
3. تنظيم محتوى مجاني مفيد
هناك ثروة من الموارد المجانية المفيدة بالفعل، من مقالات، ومدوَّّنات نصية وصوتية متاحة مجاناً. فلمَ لا تجمع هذه المصادر في سلسلة صوتية واحدة، أو تستضيف شخصية مؤثرة محلية كضيف للحديث في موضوع مُلهِم؟ ويمكنك تسجيل اللقاء باستخدام أدوات مثل "زووم" (Zoom) أو "تيمز" (Teams) دون الحاجة إلى تحرير احترافي، فالبساطة هنا ميزة.
بهذه الطريقة، تمنح موظفيك محتوى قابلاً للاستماع أثناء تنقلاتهم، أو في وقت فراغهم، ما يعزز ثقافتهم ومعنوياتهم دون تكلفة تُذكر.
4. دعم الفئات ذات الاحتياجات الإضافية
يتحمل بعض الموظفين مسؤوليات صحية أو عائلية تفوق غيرهم. ويحتاج هؤلاء إلى دعم مخصص يتلاءم مع أوضاعهم. لذا، بالتعاون مع قسم الموارد البشرية، يمكنك تقديم معلومات دقيقة وموثوقة، ومحتوى تعليمي يلامس واقعهم – سواء كانوا يعتنون بذوي إعاقة، أو يعانون من أمراض مزمنة، أو يواجهون ضغوطاً أسرية استثنائية.
5. الاستعانة بخبراء في الميزانية والإدارة المالية
إن لم يكن لدى فريقك من يملك الكفاءة لتبسيط مفاهيم الميزانية والمال، فلا تتردد في دعوة خبير خارجي. لا يدير كثير من الموظفين ميزانياتهم فعلياً، بل ينتقلون من راتب إلى آخر. وتشير دراسات حديثة إلى أنَّ 80٪ من الناس قد يجدون أنفسهم على حافة الفقر بعد فقدان دخل شهرين فقط.
فلنساعدهم على اكتساب أدوات مالية عملية: إعداد ميزانية شخصية، وتتبُّع المصاريف، وفهم أولويات الإنفاق. تمنح مخططات الميزانية الموظفين الأمان النفسي والمالي والطمأنينة التي يحتاجون إليها.

6. تبسيط المعلومات الحكومية المُربكة
يجد كثيرٌ من الموظفين صعوبة في فهم الإعلانات الحكومية المعقدة أو المتغيرة، سواء كانت متعلقة بالإعانات، أو الضرائب، أو التسهيلات الاقتصادية.
يمكنك هنا إعداد دليل مبسط، أو جلسة توعية بلغة سهلة، توضح لهم حقوقهم وخياراتهم. اجعلها خالية من المصطلحات القانونية المعقدة، مع أمثلة حياتية قريبة من واقعهم، ليسهل عليهم اتخاذ قرارات مستنيرة.
7. توفير تدريبات عملية في مهارات التواصل
قد تبدو مهارات التفاوض، والإقناع، وإدارة الحديث بلباقة مهارات بسيطة لكنَّها حيوية للغاية، خاصة حين يتحدث الموظفون مع مزوّدي الخدمات مثل شركات الكهرباء، أو البنوك، أو شركات التأمين.
علّمهم كيف يُجرون حواراً واضحاً، يعبّر عن احتياجاتهم بثقة، ويصل إلى حل وسط يرضي الطرفين. لا يُقدَّر هذا النوع من التدريب بثمن، لأنَّه يمكّنهم من التعامل بثبات واحترام حتى في أصعب المحادثات.
8. لا تتوقع من الموظفين دفع تكاليف حضور الدورات الحضورية
لا يُعقل أن نحمّل الموظف تكاليف إضافية لحضور الدورات التدريبية الحضورية في ظل أزمة غلاء المعيشة. ناهيك عن أنَّ التدريب الافتراضي أثبت كفاءته، وفي أحيان كثيرة يتفوق على التدريب التقليدي بفضل مرونته وسهولة الوصول إليه.
حان الوقت لتبنّي هذا الواقع الجديد، وتطوير مهارات مسؤولي التعلم، والمديرين، وكل من يقدم جلسات التدريب والكوتشينغ بما يضمن استمرار الأثر دون إثقال الكاهل.
9. دعم المديرين ليستطيعوا دعم الآخرين
لا تنسَ أنّ المديرين أنفسهم بحاجة إلى دعم، ليتسنّى لهم دعم فرقهم بكفاءة؛ إذ إنّهم الآن في الواجهة، و يتطلّع أعضاء فِرَقهم إليهم للحصول على التوجيه والطمأنينة.
عزّز لديهم مهارات الذكاء العاطفي مثل: التعاطف، والإنصات، والتواصل. لا تحتاج إلى برامج تدريبية ضخمة، بل يكفي تنظيم ندوة افتراضية قصيرة ومؤثرة، يتدرّب فيها المديرون على كيفية التعامل مع المواقف الحساسة، وتقديم المساندة دون وعود لا يمكن الوفاء بها.
في الختام
تماماً كما كانت الجائحة فرصة لإثبات أهمية مبادرات التعلم والتطوير، فإنَّ أزمة غلاء المعيشة اليوم تمثل فرصةً جديدةً لتأدية دور محوري وفعّال. علينا أن نضع ذلك في صدارة أولوياتنا، وأن نتحرك بخطة واضحة، ومرنة، وإنسانية.
الأمر المؤكد هو التالي: لا مجال للتجاهل أو التأجيل؛ فهذه ليست مسألة تحسين الأداء فقط، بل احتياج تعليمي وإنساني حقيقي. فلنكن نحن المستشار الجدير بالثقة الذي تلجأ إليه المؤسسة، ولنُعزّز تأثيرنا في بيئة العمل حتى نتمكن جميعاً من عبور هذه المرحلة العصيبة.
سيكون العبور أسهل بكثير إن واجهناه معاً.
هذا المقال من إعداد المدرب حسين السيد، كوتش معتمد من ولفا أكاديمي